(5) باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى: {وإن تظاهرا عليه}
30 – (1479) حدثني زهير بن حرب. حدثنا عمر بن يونس الحنفي. حدثنا عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل. حدثني عبدالله ابن عباس. حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله ﷺ نساءه قال: دخلت المسجد. فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه. وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر فقلت: لأعلمن ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة. فقلت: يا بنت أبي بكر ! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ﷺ . فقالت: مالى ومالك يا ابن الخطاب ؟ عليك بعيبتك. قال: فدخلت على حفصة بنت عمر. فقلت لها: يا حفصة ! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله ﷺ ؟ والله ! لقد علمت أن رسول الله ﷺ لا يحبك. ولولا أنا لطلقك رسول الله ﷺ . فبكت أشد البكاء. فقلت لها: أين رسول الله ﷺ ؟ قالت: هو في خزانته في المشربة. فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله ﷺ قاعدا على أسكفة المشربة. مدل رجليه على نقير من خشب. وهو جذع يرقى عليه رسول الله ﷺ وينحدر. فناديت: يا رباح ! استأذن لي عندك على رسول الله ﷺ . فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي فلم يقل شيئا. ثم قلت: يا رباح ! استأذن لي عندك على رسول الله ﷺ . فنظر رباح إلى الغرفة. ثم نظر إلي. فلم يقل شيئا. ثم رفعت صوتي فقلت: يا رباح ! استأذن لي عندك على رسول الله ﷺ . فإني أظن أن رسول الله ﷺ ظن أني جئت من أجل حفصة. والله ! لئن أمرني رسول الله ﷺ بضرب عنقها لأضربن عنقها. ورفعت صوتي. فأومأ إلي أن ارقه. فدخلت على رسول الله ﷺ وهو مضطجع على حصير. فجلست. فأدنى عليه إزاره. وليس عليه غيره. وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرت ببصري في خزانة رسول الله ﷺ . فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. ومثلها قرظا في ناحية الغرفة. وإذا أفيق معلق. قال: فابتدرت عيناي. قال:
“ما يبكيك ؟ يا ابن الخطاب!” قلت: يا نبي الله ! وما لي لا أبكي ؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار. وأنت رسول الله ﷺ وصفوته. وهذه خزانتك. فقال “يا ابن الخطاب ! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟” قلت: بلى. قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب. فقلت: يا رسول الله ! ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت، وأحمد الله، بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول. ونزلت هذه الآية. آية التخيير: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} [66 /التحريم/5] {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} [66 /التحريم/4] وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي ﷺ . فقلت: يا رسول الله ! أطلقتهن ؟ قال “لا” قلت: يا رسول الله ! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى. يقولون: طلق رسول الله ﷺ نساءه. أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال “نعم. إن شئت” فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه. وحتى كثر فضحك. وكان من أحسن الناس ثغرا. ثم نزل نبي الله ﷺ ونزلت. فنزلت أتشبث بالجذع ونزل رسول الله ﷺ كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده. فقلت: يا رسول الله ! إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين. قال “إن الشهر يكون تسعا وعشرين” فقمت على باب المسجد. فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله ﷺ نساءه. ونزلت هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [4 /النساء/83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأنزل الله عز وجل آية التخيير.
31 – (1479) حدثنا هارون بن سعيد الأيلي. حدثنا عبدالله بن وهب. أخبرني سليمان (يعني ابن بلال). أخبرني يحيى. أخبرني عبيد ابن حنين ؛ أنه سمع عبدالله بن عباس يحدث. قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية. فما أستطيع أن أسأله هيبة له. حتى خرج حاجا فخرجت معه. فلما رجع، فكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له. فوقفت له حتى فرغ. ثم سرت معه. فقلت: يا أمير المؤمنين ! من اللتان تظاهرتا على رسول الله ﷺ من أزواجه ؟ فقال: تلك حفصة وعائشة. قال فقلت له: والله ! إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل. ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه. فإن كنت أعلمه أخبرتك. قال: وقال عمر: والله ! إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء م أمرا. حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل. وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر أأتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا ! فقلت لها: ومالك أنت ولما ههنا ؟ وما تكلفك في أمر أريده ؟ فقالت لي: عجبا لك، يا ابن الخطاب ! ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان. قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني. حتى أدخل على حفصة. فقلت لها: يا بنية ! إنك لتراجعين رسول الله ﷺ حتى يظل يومه غضبان. فقالت حفصة: والله ! إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية ! لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها. وحب رسول الله ﷺ إياها. ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة. لقرابتي منها. فكلمتها. فقالت لي أم سلمة: عجبا لك يا ابن الخطاب ! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله ﷺ وأزواجه ! قال: فأخذتني أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد. فخرجت من عندها. وكان لي صاحب من الأنصار. إذا غبت أتاني بالخبر. وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر. ونحن حينئذ نتخوف ملكا من ملوك غسان. ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا. فقد امتلأت صدورنا منه. فأتى صاحبي الأنصاري يدق الباب. وقال: افتح. افتح. فقلت: جاء الغساني ؟ فقال: أشد من ذلك. اعتزل رسول الله ﷺ أزواجه. فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة. ثم آخذ ثوبي فأخرج. حتى جئت. فإذا رسول الله ﷺ في مشربة له يرتقى إليها بعجلة. وغلام لرسول الله ﷺ أسود على رأس الدرجة. فقلت: هذا عمر. فأذن لي. قال عمر: فقصصت على رسول الله ﷺ هذا الحديث. فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله ﷺ . وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء. وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف. وإن عند رجليه قرظا مضبورا. وعند رأسه أهبا معلقة. فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله ﷺ . فبكيت. فقال:
“ما يبكيك ؟” فقلت: يا رسول الله ! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه. وأنت رسول الله ؟ فقال رسول الله ﷺ : “أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولك الآخرة ؟”.
32 – (1479) وحدثنا محمد بن المثنى. حدثنا عفان. حدثنا حماد بن سلمة. أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد بن حنين، عن ابن عباس. قال: أقبلت مع عمر. حتى إذا كنا بمر الظهران. وساق الحديث بطوله. كنحو حديث سليمان بن بلال. غير أنه قال قلت: شأن المرأتين ؟ قال: حفصة وأم سلمة. وزاد فيه: وأتيت الحجر فإذا في كل بيت بكاء. وزاد أيضا: وكان آلى منهن شهرا. فلما كان تسعا وعشرين نزل إليهن.
33 – (1479) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب (واللفظ لأبي بكر) قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد. سمع عبيد بن حنين (وهو مولى العباس) قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله ﷺ . فلبثت سنة ما أجد له موضعا. حتى صحبته إلى مكة. فلما كان بمر الظهران ذهب يقضي حاجته. فقال: أدركني بإداوة من ماء. فأتيته بها. فلما قضى حاجته ورجع ذهبت أصب عليه. وذكرت فقلت له: يا أمير المؤمنين ! من المرأتان؟ فما قضيت كلامى حتى قال: عائشة وحفصة.
34 – (1479) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمد بن أبي عمر (وتقاربا في لفظ الحديث) (قال ابن أبي عمر: حدثنا. وقال إسحاق: أخبرنا عبدالرزاق). أخبرنا معمر عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن أبي ثور، عن ابن عباس. قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي ﷺ اللتين قال الله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [66 /التحريم/ 4]. حتى حج عمر وحججت معه. فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز. ثم أتاني فسكبت على يديه. فتوضأ. فقلت: يا أمير المؤمنين ! من المرأتان من أزواج النبي ﷺ اللتان قال الله عز وجل لهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ؟} قال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس ! (قال الزهري: كره، والله ! ما سأله عنه ولم يكتمه) قال: هي حفصة وعائشة. ثم أخذ يسوق الحديث. قال: كنا، معشر قريش، قوما نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد، بالعوالي. فتغضبت يوما على امرأتي. فإذا هي تراجعني. فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله ! إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه. وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فانطلقت فدخلت على حفصة. فقلت: أتراجععين رسول الله ﷺ ؟ فقالت: نعم. فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر. أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ﷺ . فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله ﷺ ولا تسأليه شيئا. وسليني ما بدا لك. ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله ﷺ منك (يريد عائشة).
قال: وكان لي جار من الأنصار. فكنا نتناوب النزول إلى رسول الله ﷺ . فينزل يوما وأنزل يوما. فيأتيني بخبر الوحي وغيره. وآتيه بمثل ذلك. وكنا نتحدث ؛ أن غسان تنعل الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي. ثم أتاني عشاء فضرب بابي. ثم ناداني. فخرجت إليه. فقال: حدث أمر عظيم. قلت: ماذا ؟ أجاءت غسان ؟ قال: لا. بل أعظم من ذلك وأطول. طلق النبي ﷺ نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت. قد أظن هذا كائنا. حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي. ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله ﷺ ؟ فقالت: لا أدري. ها هو ذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما له أسود. فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي. فقال: قد ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى انتهيت إلى المنبر فجلست. فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم. فجللست قليلا. ثم غلبني ما أجد. ثم اتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي. فقال: قد ذكرتك له فصمت. فوليت مدبرا. فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل. فقد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله ﷺ . فإذا هو متكئ على رمل حصير. قدأ في جنبه. فقلت: أطلقت، يا رسول الله ! نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال “لا” فقلت: الله أكبر ! لو رأيتنا، يا رسول الله ! وكنا، معشر قريش، قوما نغلب النساء. فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. فتغضبت على امرأتي يوما. فإذا هي تراجعني. فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله ! إن أزواج النبي ﷺ ليراجعنه. وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر. أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ﷺ . فإذا هي قد هلكت ؟ فتبسم رسول الله ﷺ . فقلت: يا رسول الله ! قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله ﷺ منك. فتبسم أخرى فقلت: أستأنس. يا رسول الله ! قال “نعم” فجلست. فرفعت رأسي في البيت. فوالله ! ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهبا ثلاثة. فقلت: ادع الله يا رسول الله ! أن يوسع على أمتك. فقد وسع على فارس والروم. وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا ثم قال ” أفي شك أنت ؟ يا ابن الخطاب ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا”. فقلت: استغفر لي. يا رسول الله ! وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن. حتى عاتبه الله عز وجل.
35 – (1475) قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة. قالت: لما مضى تسع وعشرون ليلة، دخل على رسول الله ﷺ . بدأ بي. فقلت: يا رسول الله ! إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا. وإنك دخلت من تسع وعشرين. أعدهن. فقال:
“إن الشهر تسع وعشرون” ثم قال “يا عائشة ! إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمرى أبويك”. ثم قرأ علي الآية: يا أيها النبي قل لأزواجك. حتى بلغ: أجرا عظيما. قالت عائشة: قد علم، والله ! أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت فقلت: أو في هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
قال معمر: فأخبرني أيوب ؛ أن عائشة قالت: لا تخبر نساءك أني اخترتك. فقال لها النبي ﷺ : “إن الله أرسلني مبلغا ولم يرسلني متعنتا”. قال قتادة: صغت قلوبكما، مالت قلوبكما.